سورة الصافات - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الصافات)


        


{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)}
واعلم أن سبحانه وتعالى لما قال: {فبشرناه بغلام حَلِيمٍ} [الصافات: 101] أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلغه، فقال: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} ومعناه فلما أدرك وبلغ الحد الذي يقدر فيه على السعي، وقوله: {مَعَهُ} في موضع الحال والتقدير كائناً معه، والفائدة في اعتبار هذا المعنى أن الأب أرفق الناس بالولد، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم قوته، قال بعضهم: كان في ذلك الوقت ابن ثلاث عشرة سنة، والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى لما وعده في الآية الأولى بكون ذلك الغلام حليماً، بين في هذه الآية ما يدل على كمال حلمه، وذلك لأنه كان به من كمال الحلم وفسحة الصدر ما قواه على احتمال تلك البلية العظيمة، والإتيان بذلك الجواب الحسن.
أما قوله: {إِنّى أرى فِي المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في تفسير هذه اللفظة وجهان الأول: قال السدي: كان إبراهيم حين بشر بإسحاق قبل أن يولد له قال: هو إذن لله ذبيح فقيل لإبراهيم قد نذرت نذراً فف بنرك فلما أصبح {قَالَ يَا بُنَىَّ إِنّى أرى فِي المنام أَنّى أَذْبَحُكَ}.
وروي من طريق آخر أنه رأى ليلة التروية في منامه، كأن قائلاً يقول له إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان؟ فمن ثم سمي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله فسمي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر وهذا هو قول أهل التفسير وهو يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقظة، وعلى هذا فتقدير اللفظ: إني أرى في المنام ما يوجب أن أذبحك والقول الثاني: أنه رأى في المنام أنه يذبحه ورؤيا الأنبياء عليهم السلام من باب الوحي، وعلى هذا القول فالمرئي في المنام ليس إلا أنه يذبح، فإن قيل إما أن يقال إنه ثبت بالدليل عند الأنبياء عليهم السلام أن كل ما رآه في المنام فهو حق حجة أو لم يثبت ذلك بالدليل عندهم، فإن كان الأول فلم راجع الولد في هذه الواقعة، بل كان من الواجب عليه أن يشتغل بتحصيل ذلك المأمور، وأن لا يراجع الولد فيه، وأن لا يقول له؛ {فانظر مَاذَا ترى} وأن لا يوقف العمل على أن يقول له الولد {افعل مَا تُؤمَرُ}؟، وأيضاً فقد قلتم إنه بقي في اليوم الأول متفكراً، ولو ثبت عنده بالدليل أن كل ما رآه في النوم فهو حق لم يكن إلى هذا التروي والتفكر حاجة، وإن كان الثاني، وهو أنه لم يثبت بالدليل عندهم أن ما يرونه في المنام حق، فكيف يجوز له أن يقدم على ذبح ذلك الطفل بمجرد رؤيا لم يدل الدليل على كونها حجة؟ والجواب: لا يبعد أن يقال إنه كان عند الرؤيا متردداً فيه ثم تأكدت الرؤيا بالوحي الصريح، والله أعلم.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن هذا الذبيح من هو؟ فقيل إنه إسحاق وهذ قول عمر وعلي والعباس بن عبد المطلب وابن مسعود وكعب الأحبار وقتادة وسعيد بن جبير ومسروق وعكرمة والزهري والسدي ومقاتل رضي الله عنهم، وقيل إنه إسماعيل وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن والشعبي ومجاهد والكلبي، واحتج القائلون بأنه إسماعيل بوجوه:
الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا ابن الذبيحين».
وقال له أعرابي: يا ابن الذبيحين فتبسم فسئل عن ذلك فقال: «إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده، فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له افد ابنك بمائة من الإبل، ففداه بمائة من الإبل، والذبيح الثاني إسماعيل».
الحجة الثانية: نقل عن الأصمعي أنه قال سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعي أين عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة؟.
الحجة الثالثة: أن الله تعالى وصف إسماعيل بالصبر دون إسحاق في قوله: {وإسماعيل وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل كُلٌّ مّنَ الصابرين} [الأنبياء: 85] وهو صبره على الذبح، ووصفه أيضاً بصدق الوعد في قوله: {إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد} [مريم: 54] لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به.
الحجة الرابعة: قوله تعالى: {فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ} [هود: 71] فنقول لو كان الذبيح إسحاق لكان الأمر بذبحه إما أن يقع قبل ظهور يعقوب، منه أو بعد ذلك فالأول: باطل لأنه تعالى لما بشرها بإسحاق، وبشرها معه بأنه يحصل منه يعقوب فقبل ظهور يعقوب منه لم يجز الأمر بذبحه، وإلا حصل الخلف في قوله: {وَمِن وَرَاء إسحاق يعقوب} والثاني: باطل لأن قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى قَالَ يابنى إِنّى أرى فِي المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} يدل على أن ذلك الابن لما قدر على السعي ووصل إلى حد القدرة على الفعل أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه، وذلك ينافي وقوع هذه القصة في زمان آخر، فثبت أنه لا يجوز أن يكون الذبيح هو إسحاق.
الحجة الخامسة: حكى الله تعالى عنه أنه قال: {إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] ثم طلب من الله تعالى ولداً يستأنس به في غربته فقال: {رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين} [الصافات: 100] وهذا السؤال إنما يحسن قبل أن يحصل له الولد، لأنه لو حصل له ولد واحد لما طلب الولد الواحد، لأن طلب الحاصل محال وقوله: {هَبْ لِى مِنَ الصالحين} لا يفيد إلا طلب الولد الواحد، وكلمة من للتبعيض وأقل درجات البعضية الواحد فكأن قوله: {مّنَ الصالحين} لا يفيد إلا طلب الولد الواحد فثبت أن هذا السؤال لا يحسن إلا عند عدم كل الأولاد فثبت أن هذا السؤال وقع حال طلب الولد الأول، وأجمع الناس على أن إسماعيل متقدم في الوجود على إسحاق، فثبت أن المطلوب بهذا الدعاء وهو إسماعيل، ثم إن الله تعالى ذكر عقيبه قصة الذبيح فوجب أن يكون الذبيح هو إسماعيل.
الحجة السادسة: الأخبار الكثيرة في تعليق قرن الكبش بالكعبة، فكأن الذبيح بمكة. ولو كان الذبيح إسحاق كان الذبح بالشام، واحتج من قال إن ذلك الذبيح هو إسحاق بوجهين: الوجه الأول: أن أول الآية وآخرها يدل على ذلك، أما أولها فإنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام قبل هذه الآية أنه قال: {إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى سَيَهْدِينِ} وأجمعوا على أن المراد منه مهاجرته إلى الشام ثم قال: {فبشرناه بغلام حليم} [الصافات: 101] فوجب أن يكون هذا الغلام ليس إلا إسحاق، ثم قال بعده: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} وذلك يقتضي أن يكون المراد من هذا الغلام الذي بلغ معه السعي هو ذلك الغلام الذي حصل في الشام، فثبت أن مقدمة هذه الآية تدل على أن الذبيح هو إسحاق، وأما آخر الآية فهو أيضاً يدل على ذلك لأنه تعالى لما تمم قصة الذبيح قال بعده: {وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين} ومعناه أنه بشره بكونه نبياً من الصالحين، وذكر هذه البشارة عقيب حكاية تلك القصة يدل على أنه تعالى إنما بشره بهذه النبوة لأجل أنه تحمل هذه الشدائد في قصة الذبيح، فثبت بما ذكرنا أن أول الآية وآخرها يدل على أن الذبيح هو إسحاق عليه السلام.
الحجة الثانية: على صحة ذلك ما اشتهر من كتاب يعقوب إلى يوسف عليه السلام من يعقوب إسرائيل نبي الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله فهذا جملة الكلام في هذا الباب، وكان الزجاج يقول: الله أعلم أيهما الذبيح، والله أعلم.
واعلم أنه يتفرع على ما ذكرنا اختلافهم في موضع الذبح فالذين قالوا الذبيح هو إسماعيل قالوا: كان الذبح بمنى، والذين قالوا: إنه إسحاق قالوا هو بالشام وقيل ببيت المقدس، والله أعلم.
المسألة الثالثة: اختلف الناس في أن إبراهيم عليه السلام كان مأموراً بهذا بما رأى، وهذا الاختلاف مفرع على مسألة من مسائل أصول الفقه، وهي أنه هل يجوز نسخ الحكم قبل حضور مدة الامتثال فقال أكثر أصحابنا إنه يجوز، وقالت المعتزلة وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية إنه لا يجوز، فعلى القول الأول أنه سبحانه وتعالى أمره بالذبح، ثم إنه تعالى نسخ هذا التكليف قبل حضور وقته، وعلى القول الثاني أنه تعالى ما أمره بالذبح، وإنما أمره بمقدمات الذبح وهذه مسألة شريفة من مسائل باب النسخ، واحتج أصحابنا على أنه يجوز نسخ الأمر قبل مجيء مدة الامتثال بأن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، ثم إنه تعالى نسخه عنه قبل إقدامه عليه وذلك يفيد المطلوب إنما قلنا إنه تعالى أمره بذبح الولد لوجهين:
الأول: أنه عليه السلام قال لولده إني أرى في المنام أني أذبحك فقال الولد افعل ما تؤمر وهذا يدل على أنه عليه السلام كان مأموراً بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح، ثم إنه أتى بمقدمات الذبح وأدخلها في الوجود، فحينئذٍ يكون قد أمر بشيء وقد أتى به، وفي هذا الموضع لا يحتاج إلى الفداء، لكنه احتاج إلى الفداء بدليل قوله تعالى: {وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} فدل هذا على أنه أتى بالمأمور به، وقد ثبت أنه أتى بكل مقدمات الذبح، وهذا يدل على أنه تعالى كان قد أمره بنفس الذبح، وإذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى نسخ ذلك الحكم قبل إثباته وذلك يدل على المقصود، وقالت المعتزلة: لا نسلم أن الله أمره بذبح الولد بل نقول إنه تعالى أمره بمقدمات الذبح، ويدل عليه وجوه:
الأول: أنه ما أتى بالذبح وإنما أتى بمقدمات الذبح، ثم إن الله تعالى أخبر عنه بأنه أتى بما أمر به بدليل قوله تعالى: {وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} وذلك يدل على أنه تعالى إنما أمره في المنام بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح وتلك المقدمات عبارة عن إضجاعه ووضع السكين على حلقه، والعزم الصحيح على الإتيان بذلك الفعل إن ورد الأمر الثاني: الذبح عبارة عن قطع الحلقوم فلعل إبراهيم عليه السلام قطع الحلقوم إلا أنه كلما قطع جزءاً أعاد الله التأليف إليه، فلهذا السبب لم يحصل الموت والوجه الثالث: وهو الذي عليه تعويل القوم أنه تعالى لو أمر شخصاً معيناً بإيقاع فعل معين في وقت معين، فهذا يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت حسن، فإذا أنهاه عنه فذلك النهي يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت قبيح، فلو حصل هذا النهي عقيب ذلك الأمر لزم أحد أمرين، لأنه تعالى إن كان عالماً بحال ذلك الفعل لزم أن يقال إنه أمر بالقبيح أو نهى عن الحسن، وإن لم يكن عالماً به لزم جهل الله تعالى الحسن، وإن لم يكن عالماً به لزم جهل الله تعالى وإنه محال، فهذا تمام الكلام في هذا الباب والجواب: عن الأول أنا قد دللنا على أنه تعالى إنما أمره بالذبح.
أما قوله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} فهذا يدل على أنه اعترف بكون تلك الرؤيا واجب العمل بها ولا يدل على أنه أتى بكل ما رآه في ذلك المنام.
وأما قوله ثانياً كلما قطع إبراهيم عليه السلام جزءاً أعاد الله تعالى التأليف إليه، فنقول هذا باطل لأن إبراهيم عليه السلام لو أتى بكل ما أمر به لما احتاج إلى الفداء وحيث احتاج إليه علمنا أنه لم يأت بما أمر به.
وأما قوله ثالثاً إنه يلزم، إما الأمر بالقبيح وإما الجهل، فنقول هذا بناءً على أن الله تعالى لا يأمر إلا بما يكون حسناً في ذاته ولا ينهي إلا عما يكون قبيحاً في ذاته، وذلك بناءً على تحسين العقل وتقبيحه وهو باطل، وأيضاً فهب أنا نسلم ذلك إلا أنا نقول لم لا يجوز أن يقال إن الأمر بالشيء تارة يحسن لكون المأمور به حسناً وتارة لأجل أن ذلك الأمر يفيد صحة مصلحة من المصالح وإن لم يكن المأمور به حسناً ألا ترى أن السيد إذا أراد أن يروض عبده، فإنه يقول له إذا جاء يوم الجمعة فافعل الفعل الفلاني، ويكون ذلك الفعل من الأفعال الشاقة، ويكون مقصود السيد من ذلك الأمر ليس أن يأتي ذلك العبد بذلك الفعل، بل أن يوطن العبد نفسه على الانقياد والطاعة، ثم إن السيد إذا علم منه أنه وطن نفسه على الطاعة فقد يزيل الألم عنه ذلك التكليف، فكذا هاهنا، فما لم تقيموا الدلالة على فساد هذا الاحتمال لم يتم كلامكم.
المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه، والدليل عليه أنه أمر بالذبح وما أراد وقوعه، أما أنه أمر بالذبح فلما تقدم في المسألة الأولى.
وأما أنه ما أراد وقوعه فلأن عندنا أن كل ما أراد الله وقوعه فإنه يقع، وحيث لم يقع هذا الذبح علمنا أنه تعالى ما أراد وقوعه، وأما عند المعتزلة فلأن الله تعالى نهى عن ذلك الذبح، والنهي عن الشيء يدل على أن الناهي لا يريد وقوعه فثبت أنه تعالى أمر بالذبح، وثبت أنه تعالى ما أراده، وذلك يدل على أن الأمر قد يوجد بدون الإرادة، وتمام الكلام في أن الله تعالى أمر بالذبح ما تقدم في المسألة المتقدمة، والله أعلم.
المسألة الخامسة: في بيان الحكمة في ورود هذا التكليف في النوم لا في اليقظة وبيانه من وجوه:
الأول: أن هذا التكليف كان في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح، فورد أولاً في النوم حتى يصير ذلك كالمنبه لورود هذا التكليف الشاق، ثم يتأكد حال النوم بأحوال اليقظة، فحينئذٍ لا يهجم هذا التكليف دفعة واحدة بل شيئاً فشيئاً الثاني: أن الله تعالى جعل رؤيا الأنبياء عليهم السلام حقاً، قال الله تعالى في حق محمد صلى الله عليه وسلم: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام} [الفتح: 27] وقال عن يوسف عليه السلام: {إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وقال في حق إبراهيم عليه السلام: {إِنّى أرى فِي المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] والمقصود من ذلك تقوية الدلالة على كونهم صادقين، لأن الحال إما حال يقظة وإما حال منام، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق، كان ذلك هو النهاية في بيان كونهم محقين صادقين في كل الأحوال، والله أعلم.
ثم نقول مقامات الأنبياء عليهم السلام على ثلاثة أقسام منها ما يقع على وفق الرؤية كما في قوله تعالى في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام} ثم وقع ذلك الشيء بعينه، ومنها ما يقع على الضد كما في حق إبراهيم عليه السلام فإنه رأى الذبح وكان الحاصل هو الفداء والنجاة، ومنها ما يقع على ضرب من التأويل والمناسبة كما في رؤيا يوسف عليه السلام، فلهذا السبب أطبق أهل التعبير على أن المنامات واقعة على هذه الوجوه الثلاثة.
المسألة السادسة: قرأ حمزة والكسائي: {تَرَى} بضم التاء وكسر الراء، أن ما ترى من نفسك من الصبر والتسليم؟ وقيل ما تشير، والباقون بفتح التاء، ثم منهم من يميل ومنهم من لا يميل.
المسألة السابعة: الحكمة في مشاورة الإبن في هذا الباب أن يطلع ابنه على هذه الواقعة ليظهر له صبره في طاعة الله فتكون فيه قرة عين لإبراهيم حيث يراه قد بلغ في الحلم إلى هذا الحد العظيم، وفي الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة والثناء الحسن في الدنيا، ثم إنه تعالى حكى عن ولد إبراهيم عليه السلام أنه قال: {افعل مَا تُؤمَرُ} ومعناه افعل ما تؤمر به، فحذف الجار كما حذف من قوله:
أمرتك الخبر فافعل ما أمرت به ***
ثم قال: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} وإنما علق ذلك بمشيئة الله تعالى على سبيل التبرك والتيمن، وأنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله.
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} يقال سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد، وقد قرئ بهن جميعاً إذ انقاد له وخضع، وأصلها من قولك سلم هذا لفلان إذا خلص له، ومعناه سلم من أن ينازع فيه، وقولهم سلم لأمر الله وأسلم له منقولان عنه بالهمزة، وحقيقة معناها أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له خالصة، وكذلك معنى استسلم استخلص نفسه لله وعن قتادة في أسلما أسلم هذا ابنه وهذا نفسه، ثم قال تعالى: {وتله للجبين} أي صرعه على شقه فوقع أحد جبينيه على الأرض وللوجه جبينان، والجبهة بينهما، قال ابن الأعرابي التليل والمتلول المصروع والمتل الذي يتل به أي يصرع، فالمعنى أنه صرعه على جبينه، وقال مقاتل كبه على جبهته، وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة.
ثم قال تعالى: {وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} وفيه قولان الأول: أن هذا جواب فلما عند الكوفيين والفراء والواو زائدة والقول الثاني: أن عند البصريين لا يجوز ذلك والجواب مقدر والتقدير: فلما فعل ذلك وناداه الله أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، سعد سعادة عظيمة وآتاه الله نبوة ولده وأجزل له الثواب، قالوا: وحذف الجواب ليس بغريب في القرآن والفائدة فيه أنه إذا كان محذوفاً كان أعظم وأفخم، قال المفسرون لما أضجعه للذبح نودي من الجبل: {ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} قال المحققون: السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله تعالى فلما كلفه الله تعالى بهذا التكليف الشاق الشديد وظهر منه كمال الطاعة وظهر من ولده كمال الطاعة والانقياد، لا جرم قال قد صدقت الرؤيا، يعني حصل المقصود من تلك الرؤيا.
وقوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} ابتداء إخبار من الله تعالى، وليس يتصل بما تقدم من الكلام، والمعنى أن إبراهيم وولده كانا محسنين في هذه الطاعة، فكما جزينا هذين المحسنين فكذلك نجزي كل المحسنين.
ثم قال تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين} أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها {وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الذبح مصدر ذبحت والذبح أيضاً ما يذبح وهو المراد في هذه الآية، وهاهنا مباحث تتعلق بالحكايات فالأول: حكي في قصة الذبيح أن إبراهيم عليه السلام لما أراد ذبحه قال: يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب، فلما توسطا شعب ثبير أخبره بما أمر به، فقال: يا أبت اشدد رباطي فيَّ كيلا أضطرب، واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن، واستحد شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد، واقرأ على أمي سلامي وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل لها، فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، ثم أقبل عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان ثم وضع السكين على حلقه فقال: كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة وقد تحول بينك وبين أمر الله سبحانه وتعالى ففعل ثم وضع السكين على قفاه فانقلبت السكين ونودي يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
البحث الثاني: اختلفوا في ذلك الكبش فقيل إنه الكبش الذي تقرب به هابيل بن آدم إلى الله تعالى فقبله، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله تعالى به إسماعيل، وقال آخرون أرسل الله كبشاً من الجنة قد رعى أربعين خريفاً، وقال السدي: نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح انحط من الجبل، فقام عنه إبراهيم فأخذه فذبحه، وخلى عن ابنه، ثم اعتنق ابنه وقال: يا بني اليوم وهبت لي، وأما قوله: {عظِيمٌ} فقيل سمي عظيماً لعظمه وسمنه، وقال سعيد بن جبير حق له أن يكون عظيماً وقد رعى في الجنة أربعين خريفاً، وقيل سمي عظيماً لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد إبراهيم، ثم قال تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} الضمير في قوله: {إِنَّهُ} عائد إلى إبراهيم، ثم قال تعالى: {وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين} فقوله: {نَبِيّاً} حال مقدرة أي بشرناه بوجود إسحاق مقدرة نبوته، ولمن يقول إن الذبيح هو إسماعيل أن يحتج بهذه الآية، وذلك لأن قوله: {نَبِيّاً} حال ولا يجوز أن يكون المعنى فبشرناه بإسحاق حال كون إسحاق نبياً لأن البشارة به متقدمة على صيرورته نبياً، فوجب أن يكون المعنى وبشرناه بإسحاق حال ما قدرناه نبياً، وحال ما حكمنا عليه فصبر، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذٍ كانت هذه البشارة بشارة بوجود إسحاق حاصلة بعد قصة الذبيح، فوجب أن يكون الذبيح غير إسحاق، أقصى ما في الباب أن يقال لا يبعد أن يقال هذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة عن قصة الذبيح إلا أنها كانت متقدمة عليها في الوقوع والوجود، إلا أنا نقول الأصل رعاية الترتيب وعدم التغيير في النظم، والله أعلم بالصواب.
ثم قال تعالى: {وباركنا عَلَيْهِ وعلى إسحاق} وفي تفسير هذه البركة وجهان الأول: أنه تعالى أخرج جميع أنبياء بني إسرائيل من صلب إسحاق والثاني: أنه أبقى الثناء الحسن على إبراهيم وإسحاق إلى يوم القيامة، لأن البركة عبارة عن الدوام والثبات، ثم قال تعالى: {وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وظالم لّنَفْسِهِ مُبِينٌ} وفي ذلك تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأب فضيلة الابن، لئلا تصير هذه الشبهة سبباً لمفاخرة اليهود، ودخل تحت قوله: {مُحْسِنٌ} الأنبياء والمؤمنين وتحت قوله: {ظَالِمٌ} الكافر والفاسق، والله أعلم.


{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)}
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، واعلم أن وجوه الأنعام وإن كانت كثيرة إلا أنها محصورة في نوعين إيصال المنافع إليه ودفع المضار عنه والله تعالى ذكر القسمين هاهنا، فقوله: {وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وهارون} إشارة إلى إيصال المنافع إليهما، وقوله: {ونجيناهما وَقَوْمَهُمَا مِنَ الكرب العظيم} إشارة إلى دفع المضار عنهما.
أما القسم الأول: وهو إيصال المنافع، فلا شك أن المنافع على قسمين: منافع الدنيا ومنافع الدين، أما منافع الدنيا فالوجود والحياة والعقل والتربية والصحة وتحصيل صفات الكمال في ذات كل واحد منهما، وأما منافع الدين فالعلم والطاعة، وأعلى هذه الدرجات النبوة الرفيعة المقرونة بالمعجزات الباهرة القاهرة، ولما ذكر الله تعالى هذه التفاصيل في سائر السور، لا جرم اكتفى هاهنا بهذا الرمز.
وأما القسم الثاني: وهو دفع الضرر فهو المراد من قوله: {ونجيناهما وَقَوْمَهُمَا مِنَ الكرب العظيم} وفيه قولان: قيل إنه الغرق، أغرق الله فرعون وقومه، ونجى الله بني إسرائيل، وقيل المراد أنه تعالى نجاهم من إيذاء فرعون حيث كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم.
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه منَّ على موسى وهارون، فصل أقسام تلك المنة. والهاء في قوله: {ونصرناهم} أي نصرنا موسى وهارون وقومهما: {فَكَانُواْ هُمُ الغالبين} في كل الأحوال بظهور الحجة وفي آخر الأمر بالدولة والرفعة وثانيهما: قوله تعالى: {وءاتيناهما الكتاب المستبين} والمراد منه التوراة، وهو الكتاب المشتمل على جميع العلوم التي يحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا، كما قال: {إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44].
وثالثها: قوله تعالى: {وهديناهما الصراط المستقيم} أي دللناهما على طريق الحق عقلاً وسمعاً، وأمددناهما بالتوفيق والعصمة، وتشبيه الدلائل الحقة بالطريق المستقيم واضح.
ورابعها: قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الأخرين} وفيه قولان الأول: أن المراد {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الأخرين} وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قولهم: {سلام على موسى وهارون} والثاني: أن المراد {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الأخرين} وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الثناء الحسن والذكر الجميل، وعلى هذا التقدير فقوله بعد ذلك: {سلام على موسى وهارون} هو كلام الله تعالى، ولما ذكر تعالى هذه الأقسام الأربعة من أبواب التعظيم والتفضيل قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} وقد سبق تفسيره، ثم قال تعالى: {إِنَّهمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} والمقصود التنبيه، على أن الفضيلة الحاصلة بسبب الإيمان أشرف وأعلى وأكمل من كل الفضائل، ولولا ذلك لما حسن ختم فضائل موسى وهارون بكونهما من المؤمنين، والله أعلم.


{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)}
اعلم أن هذه القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ} بغير همزة على وصل الألف والباقون بالهمزة وقطع الألف، قال أبو بكر بن مهران: من ذكر عند الوصل الألف فقد أخطأ، وكان أهل الشام ينكرونه ولا يعرفونه، قال الواحدي وله وجهان:
أحدهما: أنه حذف الهمزة من إلياس حذفاً، كما حذفها ابن كثير من قوله: {إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر} [المدثر: 35] وكقول الشاعر:
ويلمها في هواء الجو طالبة ***
والآخر أنه جعل الهمزة التي تصحب اللام للتعريف كقوله: {واليسع}.
المسألة الثانية: في إلياس قولان: يروى عن ابن مسعود أنه قرأ وإن إدريس، وقال إن إلياس هو إدريس، وهذا قول عكرمة، وأما أكثر المفسرين فهم متفقون على أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل وهو إلياس بن ياسين، من ولد هارون أخي موسى عليهم السلام، ثم قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ} والتقدير اذكر يا محمد لقومك: {إِذْ قَالَ لقومه أَلاَ تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون الله، وقال الكلبي ألا تخافون عبادة غير الله.
واعلم أنه لما خوفهم أولاً على سبيل الإجمال ذكر ما هو السبب لذلك الخوف فقال: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين} وفيه أبحاث:
الأول: في (بعل) قولان أحدهما: أنه اسم علم لصنم كان لهم كمناة وهبل، وقيل كان من ذهب، وكان طوله عشرين ذراعاً وله أربعة أوجه، وفتنوا به وعظموه، حتى عينوا له أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وهم أهل بعلبك من بلاد الشأم، وبه سميت مدينتهم بعلبك.
واعلم أن قولهم بعل اسم لصنم من أصنامهم لا بأس به، وأما قولهم إن الشيطان كان يدخل في جوف بعلبك ويتكلم بشريعة الضلالة. فهذا مشكل لأنا إن جوزنا هذا كان ذلك قادحاً في كثير من المعجزات، لأنه نقل في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كلام الذئب معه وكلام الجمل معه وحنين الجذع، ولو جوزنا أن يدخل الشيطان في جوف جسم ويتكلم. فحينئذٍ يكون هذا الاحتمال قائماً في الذئب والجمل والجذع، وذلك يقدح في كون هذه الأشياء معجزات القول الثاني: أن البعل هو الرب بلغة اليمن، يقال من بعل هذه الدار، أي من ربها، وسمي الزوج بعلاً لهذا المعنى، قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ} [البقرة: 228] وقال تعالى: {وهذا بَعْلِى شَيْخًا} [هود: 72] فعلى هذا التقدير المعنى، أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله.
البحث الثاني: المعتزلة احتجوا بهذه الآية على كون العبد خالقاً لأفعال نفسه، فقالوا: لو لم يكن غير الله خالقاً لما جاز وصف الله بأنه أحسن الخالقين، والكلام فيه قد تقدم في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14].
البحث الثالث: كان الملقب بالرشيد الكاتب يقول لو قيل: أتدعون بعلاً وتدعون أحسن الخالقين. أوهم أنه أحسن، لأنه كان قد تحصل فيه رعاية معنى التحسين وجوابه: أن فصاحة القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكاليف، بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ.
واعلم أنه لما عابهم على عبادة غير الله صرح بالتوحيد ونفى الشركاء، فقال: {الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابَائِكُمُ الأولين} وفيه مباحث.
البحث الأول: أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن حدوث الأشخاص البشرية كيف يدل على وجود الصانع المختار، وكيف يدل على وحدته وبراءته عن الأضداد والأنداد، فلا فائدة في الإعادة.
البحث الثاني: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابَائِكُمُ} كلها بالنصب على البدل من قوله: {أَحْسَنُ الخالقين} والباقون بالرفع على الاستئناف، والأول اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، ونقل صاحب الكشاف أن حمزة إذا وصل نصب، وإذا وقف رفع، ولما حكى الله عنه أنه قرر مع قومه التوحيد قال: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي لمحضرون النار غداً، وقد ذكرنا الكلام فيه عند قوله: {لَكُنتُ مِنَ المحضرين} [الصافات: 57] ثم قال تعالى: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} وذلك لأن قومه ما كذبوه بكليتهم، بل كان فيهم من قبل ذلك التوحيد فلهذا قال تعالى: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} يعني الذين أتوا بالتوحيد الخالص فإنهم لا يحضرون ثم قال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الأخرين * سلام على إِلْ يَاسِينَ} قرأ نافع وابن عامر ويعقوب (آل ياسين) على إضافة لفظ آل إلى لفظ ياسين والباقون بكسر الألف وجزم اللام موصولة بياسين، أما القراءة الأولى ففيها وجوه:
الأول: وهو الأقرب أنا ذكرنا أنه إلياس بن ياسين فكان إلياس آل ياسين الثاني: (آل ياسين) آل محمد صلى الله عليه وسلم والثالث: أن ياسين اسم القرآن، كأنه قيل سلام الله على من آمن بكتاب الله الذي هو ياسين، والوجه هو الأول لأنه أليق بسياق الكلام، وأما القراءة الثانية ففيها وجوه:
الأول: قال الزجاج يقال ميكال وميكائيل وميكالين، فكذا هاهنا إلياس وإلياسين والثاني: قال الفراء هو جمع وأراد به إلياس وأتباعه من المؤمنين، كقولهم المهلبون والسعدون قال:
أنا ابن سعد أكرم السعدينا ***
ثم قال تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} وقد سبق تفسيره، والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8